الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أي ألستم كذلك وتسمى هذه الهمزة همزة إثبات وإيجاب.وخلاصة هذه القصة أنه عليه السلام رأى رجلا ميتا بساحل طبريا بحيرة ما بين فلسطين والأردن وسورية ينصب عليها نهرا الليطاني وبانياس إذ يجتمعان ببحيرة الحولة وينسابان إليها، عرضها عشرة أميال وطولها عشرون ميلا تقريبا بيضوية الشكل ويخرج منها نهر يلتقي مع نهر الأردن ونهر الشريعة الجاري بواد اليرموك ويختلطان معه فتمر هذه الأنهار تحت جسر يسمى جسر المجامع لذلك المعنى وينساب إلى بحيرة لوط المسماة بالبحر الميت حيث لا يعيش به حيوان قد توزع لحمه ذئاب البر والبحر فإن مد البحر انتابه حيتانه، وإن جزر نهشته السباع فإذا ذهبت عنه تناولته الطيور، فقال يا رب قد علمت أنك تجمعها، أي لحرم الأموات من بطون السباع وأجواف الحيتان وحواصل الطير فأرني كيف تحييها فأزداد يقينا، فعاتبه اللّه على ذلك، فقال يا رب ليس الخبر كالمعاينة، وهو عليه السلام لم يكن شاكا وحاشاه ولكنه أحب ذلك كحب المؤمنين رؤية ربهم في الآخرة، ونبيهم في الدنيا والآخرة، ويسألونها بدعائهم فكان عليه السلام طامعا بإجابة دعائه فسأله ذلك لأنه خليله، وقد وعده بإجابة دعائه وقيل في المعنى: ولما نزلت هذه الآية قال قوم شك إبراهيم ولم يشك محمد صلّى اللّه عليهما وسلم فقال نحن أحق بالشك من إبراهيم، أي أن الشك مستحيل في حق إبراهيم لأن الشك في إحياء الموتى لو كان متطرقا إلى الأنبياء لكنت أحق به، وكيف يتصور الشك له وقد وقع لعيسى بن مريم وله ولمن قبله من الأنبياء عليهم السلام، ومن المعلوم أنه لم يشك البتة ففيه أي في هذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم نفي الشك عنهما، وقوله صلّى اللّه عليه وسلم: «أنا أحق بالشك» إلخ على سبيل التواضع وهضم النفس، وكذلك ما وقع لسائر الأنبياء فليس بالشك الذي نعرفه نحن، وفي شرح هذا الحديث بقية ولفظه عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى} إلخ.ويرحم اللّه لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي: {قالَ} تعالى مجيبا طلب خليله بعد أن قال له من أي نوع تريد الإحياء وقال من نوع الطير، قال جل قوله: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ} أي أملهن واضممهن وقربهن: {إِلَيْكَ} ثم قطعهن وفرقهن ومزقهن واخلطهن: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ} من هذه الجبال البعيدة بعضها عن بعض: {مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ} إليك بعد ذلك فإنهن: {يَأْتِينَكَ سَعْيًا} مسرعات عائشات كما كانت، ولم يقل طيرانا لأنه أبلغ حكمة وأبعد للشبهة إذ لو جاءت طائرة لتوهم أنها غيرها أو أن أرجلها غير سليمة: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيز} منيع لا ينال ولا يغلب ولا يرضى لمناصريه الخذلان لأنه يؤيدهم بمختلف الوسائل ويلهمهم فصل الخطاب من حيث لا يشعرون من أين يأتهم النصر: {حَكِيم} [260] لم يجعل لغيره تأثيرا في الإحياء والإماتة بالغ الحكمة في جميع أموره متناء في مراميها غير متناهية مراميه فأخذ عليه السلام طاوسا إشارة إلى ما في الإنسان من حب الزينة والجاه، ونسرا إعلاما بشدة شغفه في الأكل، وديكا إيذانا بكثرة ولعه بالنكاح، وغرابا تنبيها إلى تمكن حرصه في الدنيا، وإنما اختص الطيور من الحيوانات لأن همته عليه السلام في العلو إلى الملكوت والوصول إلى عالم الجبروت، لأنه عليه السلام سبّاح في مجال اللاهوتية سوّاح في ميدان الناسوتية فشاكلت معجزته همته وفي انتقاء هذه الأصناف من الطيور مشابهة إلى ما في الإنسان من أوصافها، وفيها إشارة إلى أن الإنسان إذا ترك هذه الشهوات الذميمة لحق بالعالم العلوي وارتقى أعلى الدرجات بنيل السعادة ومال إلى ما أمره به ربه وجانب ما نهاه عنه.قالوا ثم ذبحها عليه السلام وقسم كل طائر أربعة أجزاء ووضع كل جزء من الأربعة على جبل، قالوا وضع الأجزاء بعد أن خلطها بعضها ببعض، والجبال واحد بجهة الشرق، والآخر بالغرب، والثالث بالقبلة، والرابع بالشمال، بالنسبة للمكان الذي هو فيه، وتباعد عنها وأمسك رءوسها بيده ثم قال لها تعالين بإذن اللّه تعالى فصارت كل قطرة من دم وجزء من لحم وقطعة من عظم وملزم ريشة ومشعر أسر تنطاير إلى أصل طيرها وتلتصق به، وهو عليه السلام ينظر حتى إذا لقيت كل جثه بعضها وتكاملت أجزاؤها قامت وطارت في السماء بغير رأس، وهو جالس في مكانه ينظر عظمة فعل ربه وكبير قدرته وجليل عمله ونزلت إلى الأرض من قمم الجبال وأقبلت تمشي إليه متجهة نحو رءوسها حتى وصلت إليه فلاقت كل جثة رأسها الذي بيده واتصلت به فكان كل منها كما كان قبل الذبح، وطارت في السماء، فوقع ساجدا على الأرض إجلالا وتقديسا لربه جل وعلا، سبحان من حير في صنعه العقول، سبحان من أعجز بقدرته الفحول ومن هنا يعلم أنّ اللّه تعالى إذا تولى عبده بذاته وكان ذلك العبد قد فوض أمره إليه، فإنه لا يرد طلبه ويمنحه سلطة وإرادة تنقاد إليه بسببها العظماء بما يظهره على أيديهم من المعجزات التي يعجز عن مثلها البشر.وتؤذن هذه الآية أن سر الحياة وطريقة الإحياء والإماتة منحصرة به تعالى لا تكون أبدا إلا بإرادته وتومئ إلى أن قوة الإيمان باللّه تعالى قد ينشأ منها العجائب، وانظر قوله صلّى اللّه عليه وسلم: «رب أشعث أغبر لو أقسم على اللّه لأبره».
قال صلّى اللّه عليه وسلم: ما من الناس أحد أمنّ علينا في صحبته ولا ذات يده من ابن أبي قحافة.والمنة النعمة، ومن صفاته تعالى المنّان بمعنى المتفضل على عباده المحسن إليهم، وهو هنا بمعنى النقص والعيب وفيه قال بعضهم: وقال بعضهم: وقيل في هذا المعنى: والمقصودون في هذه الآية: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْف عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)} قالوا إن هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان رضي اللّه عنه لأنه جهز غزاة المسلمين إلى تبوك الذي أطلق عليهم جيش العسرة بألف بعير بأقتابها وأحلاسها وجاء أيضا بألف دينار عداها فصبّها في حجر النبي صلّى اللّه عليه وسلم، قال عبد الرحمن بن سمرة: رأيت النبي صلّى اللّه عليه وسلم يدخل يده فيها ويقلبها ويقول ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم.وقال بعض المفسرين نزلت في عبد الرحمن بن عوف إذ أتى حضرة الرسول بأربعة آلاف درهم وقال يا رسول اللّه عندي ثمانية أمسكت أربعة لنفسي وعيالي وهذه أربعة لربي، فقال له بارك اللّه لك فيما أمست وفيما أنفقت.وإن السيدين عثمان وعبد الرحمن لهما مآثر في النفقة والصدقة كثيرة لا ينكرها إلا معاند، كيف وهما من العشرة المبشرين في الجنة ولعثمان خاصة اليد البيضاء في شراء بئر رومة ووقفها على المسلمين ومساعدة المسلمين بماله ونفسه بمواقف جمة، والآية لا شك عامة يدخل فيها كل متصدق مخلص، وإن من يحمل على سيدنا عثمان على ما وقع منه إبان خلافته لا حق له بذلك لأنه مجرد اجتهاد وهو صاحب الأمر إذ ذاك فليس لأحد الخوض بما عزي إليه والأعمال بالنيات ولا عبرة بما يقوله الغلاة الذين يهرفون بما لا يعرفون ويتقولون بما يظنون.أخرج ابن ماجه وغيره عن علي كرم اللّه وجهه وأبي الدرداء وغيرهما أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: من أرسل بنفقته في سبيل اللّه وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمئة درهم، ومن غزا بنفسه في سبيل اللّه وأنفق في وجهه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمئة ألف درهم، ثم تلا هذه الآية.أي أن له من الأجر بقدر ذلك.وعن معاذ بن جبل: أن غزاة المنفقين قد خبأ اللّه تعالى لهم من خزائن رحمته ما ينقطع عنه علم العباد.واعلم أن هذه الآيات تشير إلى إنفاق المال في وجوه البر ومصالح المسلمين تزيد في ثروة المنفق وسعة رزقه في الدنيا ويضاعف له الأجر في الآخرة إذا خلا من أمرين المنّ على المتصدق عليه وإلحاقه ما يؤذيه قولا أو فعلا، وتؤذن بتحريم المن على المنفق عليه والتشهير به، وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك.وبعد أن بين اللّه تعالى ثمرة الصدقة المخلصة من الشوائب حذّر تعالى مما يوجب الشحناء مع المتسئلين إذا لم يرد أن يعطيهم أو لم يكن لديه ما يعطيهم أن يعتذر لهم بما ذكره وهو: {قَوْل مَعْرُوف} للفقير ورد جميل وحسن اعتذار له: {وَمَغْفِرَة} بأن تستر عليه سؤاله ولا تفضح حاله والصفح عما يقابلك به والتغاضي عما يصدر منه إذا تأثر من خيبة طلبه: {خَيْر مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً} وكل كلام ثقيل على النفس أو ينكمش منه الوجه فهو أذى، ففظاظة الكلام والتعنيف من الأذى أيضا فليجتنبه المتصدق جهد استطاعته: {وَاللَّهُ غَنِيّ} عن عباده كلهم وقادر على رزق الفقراء ومن دونهم ولكنه يريد إثابة عباده بما أنعم عليهم وتحليتهم بالتصدق منه ولاسيما إذا كانت على المجاهدين فإنها أعظم أجرا وأدوم ذكرا: {حَلِيم (263)} لا يعجل عقوبة البخيل والمانّ بالصدقة والمؤذي المتصدّق عليه بكلامه واكفهرار وجهه بل يمهلهم ليتوبوا ويرجعوا ويقول لهم: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى} وذلك لأن النفوس طبعت على حب الثناء وكثيرا ما ينكر الخلق الجميل فيما بينهم ويجحدون الإحسان عليهم وهذا مما يوغر بعض الصدور الضيقة فتنفجر بالمن والأذى على منكري المعروف، لهذا حذرهم اللّه تعالى من أن يقولوا ما يبطل أجر صدقاتهم وإنما رغبهم بالتجمل لهؤلاء الثقلاء كي لا يكونوا: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ} فيبطل أجر نفقته بسبب حب السمعة والصيت فيها: {وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الذي يثاب فيه المخلص ويعاقب المرائي، لأن هذه الآية تومئ بأن التصدق رياء من سمات المنافقين لا المؤمنين ولهذا وصمهم بعدم الإيمان ثم وصفهم بقوله: {فَمَثَلُهُ} أي المنفق المرائي: {كَمَثَلِ صَفْوانٍ} حجر أملس: {عَلَيْهِ تُراب فَأَصابَهُ وابِل} مطر شديد: {فَتَرَكَهُ صَلْدًا} لا تراب عليه ولا غبار وهؤلاء: {لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ} من ثواب نفقاتهم: {مِمَّا كَسَبُوا} في الدنيا لأنهم كفروا نعمة اللّه: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264)} إلى سبيل الخير، وهذا مثل ضربه اللّه تعالى لنفقة المرائي المانّ بصدقته أو المقطب وجهه عند السؤال فالنفقة هي التراب والمن والأذى هو المطر إذ يذهب به ولا يبقى له أجرا فكذلك هؤلاء يعدمون ثواب صدقاتهم يوم القيامة ويعاقبون على فضول أموالهم وعدم إحسانهم على عيال اللّه والمجاهدين في سبيله فيندمون على ما كان منهم ولات حين مندم.قال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} على الإنفاق في طاعته تصديقا لثوابه ورغبة بوعده: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} مكان مرتفع عن الأرض إذ يكون ثمرها أزكى وزرعها أزهى من غيره قال الأبوصيري: وهذه الربوة: {أَصابَها وابِل} غيث غزير نافع: {فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ} مثلين عن غيرها: {فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِل فَطَلّ} مطر خفيف أو ندى فإنه يكفيها ولا ينقص ثمرها ولا يخل بزهرتها: {وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِير (265)} لا يخفى عليه شيء من نفقاتكم ونياتكم، وهذا مثل آخر ضربه اللّه تعالى لنفقة المخلص فكما أن هذه الجنة تزكوا في كل حال ولا تختلف قل مطرها أو كثر فكذلك نفقة المؤمن الخالصة ينميها اللّه تعالى له قلت أو كثرت، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: إن اللّه ليربي صدقة أحدكم كما يربي أحدكم فلوه.وإنما قال فلوه ولم يقل ولده لأن من له ولع بتربية الخيل يصرف جهده على نسلها ويتعاهده بنفسه أكثر مما يتعاهد ولده وهو واقع مشاهد لا ينكره أحد.هذا وما نقلناه من سبب نزول الآية [262] بما قام به عثمان وعبد الرحمن رضي اللّه عنهما من تقديم المال في غزوة تبوك لا يوثق به لأن غزوة تبوك كانت في السنة التاسعة من الهجرة بعد نزول هذه الآية بسبع سنين تقريبا لأنها نزلت في السنة الثانية تقدمة لآية فرض الزكاة التي تتعقبها، وما قيل إن الزكاة فرضت بآية [براءة 103] فبعيد عن الصواب كما سنذكره في تفسير هذه الآية إن شاء اللّه، لذلك فإن ما ذكرناه من أن الآية [262] عامة في المومى إليهما وغيرهما أولى لأن سياقها ينافي ما ذكروه من الأسباب واللّه أعلم.واعلم أن هذه الآية تشير إلى أن خير البر ما كان قصد به وجه اللّه طلبا لمرضاته وأن الخير الذي يرجى ثوابه في الآخرة، ما كان منبعثا عن طيب النفس وخلوص النية للذين هما ملاك سعادة الإنسان لأن الإخلاص للّه تعالى في كل شيء واجب، وليتحقق هذا المخلص أنّ اللّه تعالى سيخلفه عليه وأن الإحسان للناس مطلوب، قال أحمد بن المتيم النحوي: قال تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّة مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ} أي صاحب هذه الجنة وهو معطوف بالمعنى على أيود كأنه قيل: أيود أحدكم لو كانت له جنة: {وَأَصابَهُ الْكِبَرُ} ولم يكن له غيرها ولا قدرة له على الكسب مع غاية احتياجه إليها: {وَلَهُ ذُرِّيَّة ضُعَفاءُ} صغار عاجزون عن الكسب أيضا: {فَأَصابَها إِعْصار} ريح مستديرة مرتفعة إلى السماء كالعمود: {فِيهِ نار} عظيمة بدليل التنكير الدال على التهويل والتكبير: {فَاحْتَرَقَتْ} تلك الجنة بسببها: {كَذلِكَ} مثل البيان الواضح: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ} على النفقة المقبولة وغير المقبولة: {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)} فيهما فتعملون ما لا تندمون عليه يوم القيامة يوم لا ينفع الندم، وهذا مثل ثالث ضربه اللّه تعالى لعمل المنافق المرائي الذي يعدم ثواب نفقته في الآخرة، فالعمل في حسنة كالجنة المنتفع بها، واحتياجه لها في الدنيا كاحتياج الرجل يوم القيامة للثواب، وإحراقها وقت عجزه وهو بحالة يكون أحوج إليها من غيرها، كإبطال الثواب عند ما يكون أشد حاجة له يوم القيامة، فيلحقه من الغم والخسرة أكثر مما يلحق صاحب الجنة المحترقة لأنه قد يأمل إخلاصها بعد وفي الآخرة تنقطع الآمال.قال الحسن هذا مثل قلّ واللّه من يعقله من الناس شيخ كبير ضعف جسمه وكثر عياله أفقر ما كان إلى جنته وإن أحدكم واللّه أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا، قال ابن عباس نزلت هذه الآية مثلا لرجل غني يعمل الحسنات ثم بعث اللّه له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله كلها.وترمي هذه الآية إلى أن الفرق بين المرائي والمنّان في النفقة من حيث وقع المصيبة وتأثيرها في النفس لأن المرائي لم يبرح ثوابا على نفقته فلا يحزن لحرمانه من ثوابها لأن قصده إظهارها للناس وحمده عليها وقد حصل على ذلك في الدنيا، والمنّان كان يرجو ثواب صدقته فحرمه اللّه بسبب منّه وأذاه.وتشير إلى أن كل ما يغضب اللّه تعالى بسبب زوال النعم وإلى عدم الاغترار بنعم اللّه لأنه يؤدي إلى سلبها وأن عدم وجود النعمة مبدئيا خير من وجودها وسلبها، فعلى العاقل أن يحذر من نقم اللّه أكثر مما يتطلب من نعمه وأن يتلبس بالطاعة كلما زاده اللّه خيرا لأن المعصية تسبب الزوال.
|